يتباهي البشر في هذا العصر بما حققوه من إنجازات علمية وتقنية في شتى المجالات وخاصة في مجال أنظمة الاتصالات وأجهزة الحاسوب وشبكات المعلومات وشبكات الطاقة الكهربائية. ولكن إذا ما شرحت لمن يتباهي بهذه الإنجازات تركيب وطريقة عمل أي عضو من أعضاء جسم الإنسان فإن مباهاته سرعان ما تتلاشى ويرتد إليه طرفه وهو حسير. وفي هذه المقالة سنشرح تركيب أعقد جهاز في جسم الإنسان ألا وهو الجهاز العصبي وبالذات الدماغ الذي هو أهم مكوناته. ولقد اعترف العلماء بأن التعقيد الموجود في تركيب الدماغ لا يوجد ولن يوجد في أعقد الأجهزة الإلكترونية التي اخترعها الإنسان بل إن أحدهم قد قال أنه لو تم جمع جميع الحواسيب في العالم وتم ضغطها لتكون بحجم دماغ الإنسان فلن يصل تعقيد مكوناتها تعقيد مكونات الدماغ. وسنبين أن التعقيد الموجود في دوائره العصبية لا يضاهيه التعقيد الموجود في دوائر أضخم الحواسيب الجبارة والتعقيد الموجود في أليافه العصبية لا يضاهيه التعقيد الموجود في أسلاك أضخم الشبكات الهاتفية. أما الوظائف التي يقوم بها الدماغ فإن البشر لا زالوا يقفون عاجزين عن اختراع أجهزة تقوم بمثل هذه الوظائف وعلى القارئ أن يقارن بين الحركات التي يمكن أن يقوم بها جسم الإنسان مع تلك التي يقوم بها الإنسان الآلي أو الروبوت وبين قدرة الدماغ على التعرف على ملايين الأشياء التي شاهدها لمرة واحدة وبين فشل الحواسيب الجبارة على التعرف على أبسط الأشياء. أما قدرة الدماغ على تمكين الإنسان من الإحساس بوجوده وبمشاعره وعواطفه فلا أعتقد أن العلماء سيفكرون يوما من الأيام في تصنيع أجهزة تقلده في فعل ذلك وصدق الله العظيم القائل "هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) " لقمان.
يعتبر الجهاز العصبي أهم جهاز من أجهزة الجسم على الإطلاق فبدونه لا يمكن لبقية الأجهزة أن تقوم بوظائفها على الوجه المطلوب وهو يعمل في أبسط أشكاله كجهاز للتحكم يحدد الطريقة التي يعمل بها كل عضو من أعضاء الجسم بالتنسيق مع بقية الأعضاء. وكما هو الحال في أنظمة التحكم المستخدمة في الأجهزة الحديثة فإن الجهاز العصبي يقوم باستقبال إشارات حسية محملة بالمعلومات من مختلف أعضاء الجسم ومن المحيط الخارجي ثم يقوم بمعالجتها ومن ثم يقوم بإصدار الأوامر التي تتحكم بعمل هذه الأعضاء من خلال الإشارات التي يرسلها إليها ولما فيه مصلحة هذا الجسم. وتعمل البرامج المخزنة مسبقا في الجهاز العصبي على دفع الكائن الحي بشكل غريزي للبحث عن طعامه وشرابه وذلك لتأمين الطاقة اللازمة لعمل أجهزة جسمه وكذلك دفعه للتزاوج مع شريكه لإنتاج كائنات جديدة للحفاظ على جنسه إلى جانب دفعه إلى أخذ التدابير اللازمة للحفاظ على جسمه من المخاطر التي يتعرض إليها من المحيط الذي يعيش فيه. ويتميز الجهاز العصبي في الإنسان على تلك التي في بقية الكائنات الحية بوجود وظائف أخرى كثيرة إلى جانب الوظائف السابقة كقدرته على الكلام والقراءة والكتابة والتذكر والتفكير والوعي والإحساس بالعواطف والمشاعر وغير ذلك الكثير كما سنشرح ذلك لاحقا.
وباستثناء التعقيد البالغ في تركيب
الجهاز العصبي والآليات المعقدة التي يستخدمها في معالجة المعلومات فإن تركيبه العام لا يختلف من حيث المبدأ عن تركيب أجهزة التحكم الكهربائية التي تستخدم الحواسيب والمتحكمات والمعالجات الدقيقة في عملية التحكم في مختلف أنواع الأجهزة والروبوتات. ففي مقابل الأسلاك المعدنية في الأجهزة الإلكترونية يستخدم الجهاز العصبي الألياف العصبية والتي تتميز بصغر قطرها البالغ الذي يقاس بالميكرومترات. وفي مقابل الترانزستورات في الأجهزة الإلكترونية يستخدم الجهاز العصبي الخلايا العصبية كوحدة أساسية لمعالجة المعلومات والتي تتميز على الترانزستورات بقدرتها الفائقة على معالجة المعلومات حيث تقوم الخلية الواحدة مقام معالج دقيق كامل يحتوي على ملايين الترانزستورات. وكما أن أنظمة التحكم المعقدة وأنظمة الحاسوب العملاقة تستخدم طرق المعالجة المتوازية والموزعة بدلا من المعالجة المتسلسلة والمركزية لزيادة سرعة معالجتها المعلومات فإن الجهاز العصبي يقوم بمعالجة المعلومات المختلفة التي يستلمها من الجسم في أماكن مختلفة من الدماغ والحبل الشوكي بل حتى في داخل الأعضاء المتحكم بها. إن مثل هذه المعالجة المتوازية والموزعة المستخدمة في الجهاز العصبي تضمن عمل النظام حتى في حالة تعطل بعض أجزائه إلى جانب سرعة تنفيذ الأوامر في أعضاء الجسم المختلفة.
يتكون الجهاز العصبي في الإنسان وفي بعض الكائنات الحية من جزئيين رئيسيين أولهما الجهاز العصبي المركزي والذي يتكون من الدماغ الموجود في الجمجمة والحبل الشوكي الموجود في العامود الفقري أما ثانيهما فهو الجهاز العصبي المحيطي وهو كل ما يقع خارج الجمجمة والحبل الشوكي من مكونات عصبية وهي الألياف والعقد العصبية والمستقبلات الحسية. ويعتبر الدماغ أهم مكونات الجهاز العصبي ويعتمد تعقيد تركيبه في الكائنات الحية على عدد وحجم الوظائف التي يقوم بها لخدمة جسم الكائن وبشكل عام فهو يزداد حجما وتعقيدا كلما ازداد حجم جسم الكائن باستثناء الإنسان . ويتراوح وزن الدماغ بين عدة غرامات في الحشرات والأسماك وعدة مئات من الغرامات في الحيوانات الكبيرة كالثدييات أما الإنسان فيصل وزن دماغه إلى ما يقرب من ألف وخمسمائة غرام وقد يصل في بعض الحيوانات الكبيرة الحجم كالفيلة والحيتان والدلافين إلى عدة كيلوغرامات.
صور لأدمغة متنوعة فتبارك الله أحسن الخالقين
إن قدرات الدماغ لا تعتمد فقط على حجمه بل على مساحة سطحه لأسباب سنبينها فيما بعد ولذلك نجد أن أدمعة الحيوانات الكبيرة لها أسطح كثيرة التلافيف والاخاديد وهي أكثر وأعمق ما تكون في دماغ الإنسان كما هو مبين في الصورة المرفقة. إن زيادة حجم دماغ الإنسان بحيث أصبح يساوي ثلاثة أضعاف حجم أدمغة حيوانات مساوية له في الوزن ليدل دلالة قاطعة على أن الإنسان له مكانة خاصة في هذا الكون وأن خلقه قد تم من قبل العليم الخبير سبحانه وتعالى. ومما يؤكد أيضا على تميز الإنسان على غيره من الكائنات هو أن زيادة قدرات دماغه قد رافقها تعديل قدرات أعضاء أخرى مكنته من الاستفادة من قدرات هذا الدماغ الجبار كالأيدي الماهرة التي تحول الأفكار إلى أفعال واللسان الطلق الذي ينقل المعلومات التي يختزنها العقل إلى الآخرين والحواس المتطورة التي تجمع المعلومات من المحيط الذي يعيش فيه. ونظرا للدور البالغ الأهمية الذي يلعبه الجهاز العصبي في ضبط عمل جميع أعضاء أجسام الكائنات الحية وكذلك نظرا لطبيعته الهشة فقد تم حمايته بشكل بالغ الإحكام. فالدماغ محمي بعظام الجمجمة البالغة الصلابة وقد تم تغليفه بثلاث أغشية متينة يطلق عليها اسم السحايا وهي الأم الجافية وهي غشاء ليفي سميك ومتين يبطن عظام الجمجمة مباشرة والأم العنكبوتية وهي تبطن الأم الجافية والأم الحنون وهي غشاء رقيق يغلف الدماغ ويتخلل جميع تجاعيده. ويملأ الحيز بين الأم الحنون والأم العنكبوتية سائل يسمى السائل المخي الشوكي وهو